فصل: مطلب في الخوف والرجاء والتعريض بالهجرة لمن ضاقت به أرضه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال تعالى: {لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} كما يزعمون، تعالى عن ذلك {لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ} لا منازع له ولا معارض ولكنه لم يرد فامتنع أن يقال اتخذ ولدا {سُبْحانَهُ} تنزه عن ذلك وتقدس عما لا يليق به {هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ} في ملكه المبرأ عن انضمام الأعداد والمتعالي عن التجزي والولاد {الْقَهَّارُ 4} لكل شيء المحتاج إليه كل شيء، وهذه مسوقه لتحقيق الحق الذي هو تنزيهه جل شأنه عن ذلك وإبطال القول بأن الملائكة بناته، ويدخل فيه ما نسبه أهل الكتابين من بنوّة عيسى وعزير عليهما السلام مضاهاة للعرب الذين نسبوا بنوة الملائكة إليه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا وتقدس تقديسا عظيما ببيان استحالة اتخاذ الولد في حقه على الإطلاق ليندرج فيه استحالة ما قيل اندراجا أوليا، ومن هذا الباب نعم العبد صهيب لو لم يخف اللّه لم يعصه مطلقا، وحاصل معنى الآية واللّه أعلم:
لو أراد سبحانه اتخاذ الولد لامتنعت تلك الإرادة لتعلقها بالممتنع أعني الاتخاذ.
لكن لا يجوز على الباري إرادة ممتنعة لأنها ترجح بعض المكنات على بعض، وأصل الكلام لو اتخذ الولد لامتنع لاستلزامه ما ينافي الإلهية فعدل إلى لو أراد الاتخاذ لامتنع أن يريده ليكون أبلغ وأبلغ، ثم حذف هذا الجواب وجيء بدله {لَاصْطَفى} تنبيها على أن الممكن هذا لا الأول وأنه لو كان هذا من اتخاذ الولد في شيء لجاز اتخاذ الولد عليه سبحانه تنزه عن ذلك، فقد تحقق التلازم وحق نفي اللازم واثبات الملزوم دون صعوبة.
واعلم أن اتخاذ الولد يقتضي التبعيض وانفصال شيء من شيء ويقتضي المماثلة أيضا بين الولد والوالد، هذا وإن الوحدة الذاتية الحقيقية التي هي في أعلى مراتب الوحدة الواجبة له تعالى بالبراهين القطعية العقلية تأبى التبعيض والانفصال إباء ظاهرا لأنهما من خواطى الحكم، وقد اعتبر في مفهوم الوحدة الذاتية سلبه فتأبى الاتخاذ المذكور وكذا تأبى المماثلة سواء فسرت بما ذهب إليه الجبائي وأضرابه من قدماء المعتزلة وهي المشاركة في أخص صفات الذات كمشاركة زيد لعمرو في الناطقية أم فسرت بما ذهب إليه المحققون من الماتريدية وهي المشاركة في جميع الصفات الذاتية كمشاركته له في الحيوانية والناطقية، أم فسرت بما نسب إلى الأشعري وهو التساوي بين الشيئين من كل وجه.
هذا ويفهم من لفظ القهار الذي ختمت به هذه الآية الزجر والتهديد لأولئك المتخذين إلها غير اللّه الناسبين إليه الولد، وفائدة هذا الزجر والتخويف ليرتدعوا عن القول بذلك وإنما اقتصر على التهديد فقط مع أنهم يستحقون أكثر منه لأن علاج الرجل المصر على بطله أن تأتي له بما يزيل الإصرار عن قلبه حتى يسمع الدليل ويعيه فيفضي إلى المقصود، ولهذا فإن الطبيب يتقدم إلى المريض أولا يسقى بشيء منضج ليفتت ما في أمعائه ثم بالحقنة لإخراج تلك الفتات التي كانت متحجرة فيها ثم بالمسهل لإفراغ تلك الأمعاء وتطهير المعدة مما كان فيها إذ لو أعطاه المسهل رأسا لما نفعه بل قد يضره لأن المواد الفاسدة اليابسة لا يؤثر عليها وإذا لم تخرج هذه لا يتيسر لمسهل التطهير بل قد لا يتيسر له الخروج أيضا فتمتلىء الأمعاء فتتلاشى ويحصل الموت بالأجل المقدر على هذا، فإجراه التهديد أولا يجري مجرى المنضج والتفتيت واسماع الدليل بعده يجري مجرى الحقنة وقبول ذلك يجري مجرى المسهل تدبر.
قال تعالى: {خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} خلقا مشتملا على الحكم والمصالح بالعدل والصواب {يُكَوِّرُ} يلف ويغيّب ويغشي {اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ} إذا طرأ عليه، إذ يضمحل فيه ولا يبقى له أثر {وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ} إذا حدث عليه فيفعل فيه ما فعل فيه التكوير هو اللف واللّي يقال كار العمامة وكوّرها على رأسه إذا لفها ولواها شبه سبحانه تغيب أحدهما بالآخر بشيء ظاهر غشيه ما غيبه عن الرؤية بحيث يلبسه مكانه لاشتماله عليه، ومن قال إن المعنى يحمل أحدهما على الآخر فتحصل الزيادة والنقصان فيهما فقول لا يتجه هنا بل يكون في تفسير قوله تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ} الآية 13 من سورة فاطر المارة في ج 1، ونظيرها في الآية 27 من آل عمران والآية 6 من سورة الحديد في ج 3، ولا يخفى أن الإيلاج غير التكوير لفظا ومعنى {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} عنده وسيبقى هذا الجريان مستمرا حتى إذا أراد خراب هذا الكون فرطه، وكما أن هذا الجريان لأجل معين فهو لمكان معين وبطريق معروف أيضا لا يزيغ عنه قيد شعرة وبانتظام تام على مر الأعوام فسبحانه من مدبر مبدع علام، فانتبهوا أيها الناس لهذا الإله {أَلا هُوَ الْعَزِيزُ} الغالب كامل القدرة لا مثيل له {الْغَفَّارُ} كثير المغفرة واسع الرحمة عظيم الفضل كثير الإحسان لمن تفكر واعتبر بمصنوعاته، كما أنه قاصم الرقاب ومهلك ألباب من لم يتعظ ويتدبر بآياته ومبتدعاته فهو الإله الواحد العظيم الذي {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ} هي نفس آدم عليه السلام {ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها} حواء رضي اللّه عنها لأنه خلقها من ضلعه فهو من تراب وهي من عظم ولحم ودم وسائر الخلق من النطف والتكوين سبحانه نوع خلقه أربعة أنواع متقابلة، خلق آدم بلا أب ولا أم وحواء من أب بلا أم وعيسى من أم بلا أب وبقية البشر من أب وأم {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ} لما كانت الأنعام لا تعيش إلا بالنبات، والنبات لا يقوم إلا بالماء، والماء ينزل من السماء، قال تعالى: {وَأَنْزَلَ} أي أحدثها وأنشأها بأسباب نازلة من السماء كالأمطار والثلوج وأشعة الكواكب الناشئ عنها العشب الذي تقتات به الحيوانات، وهذا على حد قوله تعالى: {قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباسًا} الآية 26 من الأعراف في ج 1، لأن اللباس نفسه لم ينزل من السماء وإنما أنزل الماء فأنبت القطن وغيره من كل ما ينسج والنبات الذي غذى متنه الحيوان الذي يحصل منه الصوف والشعر والوبر وغيره وأنعش دود القز وشبهه الذي يحصل منه الحرير وغيره فاتخذت الألبسة منها، وقال بعضهم معنى {أَنْزَلَ} قضى وحكم وقسم، وأراد بأن قضاء اللّه تعالى وقسمه يوصف بالنزول من السماء لأنهما مدونان باللوح المحفوظ وكل ما يقع في الكون فهو نازل مما هو مكتوب فيه، وهو كما ترى {ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ} تقدم بيانها في الآية 143 من سورة الأنعام المارة {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ} أنتم وأنعامكم وغلب في الخطاب من يعقل على من لا يعقل لشرفه عليه.
واعلم أن مخلوقات اللّه تعالى ما يكونه تكوينا فيكون بنفسه من غير البطن وهذا داخل في لفظ الخلق ويكون خلقه تدريجا حتى يكمل فيدخل في قوله تعالى {خلقا من بعد خلق} أما الإنسان وقسم من الحيوان فيكون {خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} في الرحم المشتمل عليه البطن من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى لحم وعظم {فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ} ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة وهي الجلدة الرقيقة التي تشتمل على الجنين {ذلِكُمُ} أيها الناس الذي يفعل هذه الأشياء وغيرها مما لا يطيق على جزء بعضه أعظم البشر ولو كان بعضه لبعض ظهيرا هو {اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} كله وحده {لا إِلهَ إِلَّا هُوَ} الذي لا يستحق العبادة غيره فهو المعبود الحق {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ 6} أي كيف تعدلون عن الحق إلى الباطل بعد أن اتضح لكم.
ولهذا البحث صلة في الآية 12 من سورة المؤمنين الآتية والآية 4 من سورة الحج في ج 3، واعلموا أيها الناس أنكم {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} وأنتم محتاجون إليه {وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ} لأنه يؤدي بهم إلى النار، ولذلك ينهاهم عنه ويرضى لهم الإيمان المؤدي إلى الجنان ولذلك يأمرهم به، والرضى بالشيء مدحه والثناء عليه واللّه تعالى قد ذم الكفر وقبحه وحبذ الإيمان ومدحه، والفرق بين الإرادة والرضى ظاهر وإن إرادته منهم لا يعني أنه أمرهم به أو رضيه عنهم، راجع الآية 149 من سورة الأنعام المارّة وما ترشدك إليه تقنع {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} يقرأ باختلاس ضم الهاء حتى يرضه لا بالإشباع لأن في الرضا نجاتكم من العذاب وفوزكم بالجنة، ويفهم من هذه الآية أن اللّه تبارك وتعالى أراد بالشكر هنا الإيمان لمجيئه بمقابلة الكفر، غير أنه إذا فسر الكفر فيها بكفران النعمة والشكر بشكرها أولى لأن الآية عامة وابقاء اللفظ على عمومه أولى من تخصيصه بدون صارف يصرفه عن عمومه ولكن لم أر من قال به ولذلك قدمنا ما عليه الجمهور والاتباع خير من الابتداع {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} تقدم تفسيرها في الآية 18 من سورة فاطر والآية 38 من سورة والنجم في ج 1 والآية 164 من سورة الأنعام المارة {ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ} في الآخرة {فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا ويجازيكم عليه دون حاجة إلى سؤال أو اعتراف أو شهود {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} ومن كان عالما بخفيّات الأمور وسرائرها فهو بعلانيتها وظواهرها أعلم {وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ} من كل ما يتضرر به الإنسان أو يتألم منه مادة ومعنى {دَعا رَبَّهُ مُنِيبًا} راجعا خاضعا خاشعا مستغيثا {إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ} أعطاه وأعاره وراعاه ومعنى خوّله جعله ذا خول أي عبيد وإماء وخدم وأصله تعهد الشيء والرجوع إليه مرة بعد أخرى والمحافظة عليه وأطلق على العطاء {نِعْمَةً مِنْهُ} تفضلا منه لا لغرض ولا لعوض {نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} وهو الضر وترك الدعاء أيضا بكشفه، ولم يكتف بهذا الصدود عن ذلك المنعم بل مال إلى الافتراء عليه {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدادًا} أمثالا صيرها آلهة معه ولم يقتصر على ضلاله بل عمد {لِيُضِلَّ} غيره {عَنْ سَبِيلِهِ} الحق القويم، فيا أكرم الرسل {قُلْ} لهذا الكافر وهو على ما قيل عتبة بن ربيعة أو حذيفة المخزومي {تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا} في هذه الدنيا الفانية لأنها بالنسبة للآخرة قليل ومهما عاش بها ابن آدم أو ملك منها فهو قليل وقد تهون بعين المؤمن إذ يرجو عند ربه خيرا منها وتعظم بعين الكافر لكونه صفر اليدين في الآخرة إذ يقال له فيها {إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ 8} أجارنا اللّه منها، وهذه الآية عامة في كل من هذا شأنه ومن قال بأنها نزلت في أحد المذكورين فقوله لا يخصصها لأن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ كما أن قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجدًّا وَقائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} عامة أيضا في كل من كان ديدنه ذلك.
وما جاء أنها نزلت في أبي بكر أو عمر أو عثمان رضي اللّه عنهم وكلهم أهل لأن ينزل فيهم قرآن وأن يوصف بما في هذه الآية لا يخصصها أيضا {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} استفهام إنكاري أي لا يستوون عند اللّه وعند عقلاء الأمة لأن العالم من ينتفع بلبّه لقوله تعالى: {إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ} بآيات اللّه والجهال لا قلوب لهم حيّة تعي ذلك فلا يتذكرون ولا يذكرون.

.مطلب في الخوف والرجاء والتعريض بالهجرة لمن ضاقت به أرضه:

يستدل من هذه الآية أن جانب الرجاء أكمل وأولى أن ينسب إلى اللّه تعالى لأنه أضيف في هذه الآية الحذر في مقام الخوف للنفس الإنسانية، وأضيفت الرحمة في مقام الرجاء إلى الحضرة الربانية، ويؤيد هذا ما روي عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت أي محتضر فقال له: «كيف تجدك؟» قال أرجو اللّه يا رسول اللّه وأخاف ذنوبي، فقال صلّى اللّه عليه وسلم «لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه تعالى ما يرجو وآمنه مما يخاف». أخرجه الترمذي فيجب على المؤمن أن يكون دائما بين الخوف من عقاب اللّه بالنظر لتقصيره تجاهه والرجاء لرحمته بالنظر لواسع فضله، وفي حالة الصحة يرجح الخوف على الرجاء، وفي حالة الشدة يغلب الرجاء على الخوف، ولا ينبغي أن يبالغ في الرجاء فإنه إذا جاوز حده يكون أمنا واللّه تعالى يقول {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ} الآية 99 من سورة الأعراف المارة في ج 3، ولا يبالغ في الخوف فإنه إذا جاوز حده يكون يأسا وقال اللّه تعالى {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ} الآية 87 من سورة يوسف المارة، وافتتح اللّه تعالى هذه الآية بالعمل وختمها بالعلم لأن العمل من باب المجاهدات وهو البداية في سلوك طريق اللّه السوي والعلم من باب المكاشفات وهو النهاية لبلوغ المقصد العلي فإذا حصلا للإنسان دل ذلك على كماله وفضله، قال تعالى: {قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ} بامتثال أوامره واجتناب نواهيه فإن {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} العمل بعد الإيمان والتقوى {فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ} عظيمة في الآخرة لا مثيل لها ولا توصف لأنها من قبل من ليس كمثله شيء {وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ} لا تضيق بكم فإذا رأيتم جورا في قسم منها فاتركوه وانزلوا غيره، وهذه أول آية عرّض اللّه بها إلى رسوله بالهجرة من مكة لأنها ترمز إلى أنه إذا لم يتمكن الإنسان من فعل الإحسان الذي أمره ربه به في وطنه فليهجرها ويهاجر إلى غيرها من بلاد اللّه تعالى مما يمكنه إجراء ما أمر به من العبادة كما فعل الأنبياء والصالحون من قبل إذ تركوا أوطانهم التي أهينوا فيها لأجل اللّه وتوطنوا غيرها، فلا عذر لكم بأن لا تحسنوا في أعمالكم وأقوالكم بسبب بقائكم بأرض يمنعكم أهلها من ذلك، واصبروا على مبارحة دياركم ومفارقة تعلقاتكم من أهل ومال وجاه ونشب وعشيرة {إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ} عند اللّه الذين صبروا من أجله {بِغَيْرِ حِسابٍ 10} بشيء كثير لا يعرف حسابه ولا يهتدي إليه حاسب، وذلك لأنهم صبروا على الجلاء طاعة للّه تعالى وطلبا لازدياد فعل الخير ولئلا يفرطوا بأوقاتهم دون أن يقدّموا للّه تعالى بها حسنات، قال علي كرم اللّه وجهه: كل مطيع يكال له كيلا ويوزن له وزنا إلا الصابر فإنه يحثى له حثيا.
وروي أنه يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصب عليهم الأجر صبا بغير حساب حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا لو أن أجسادهم تقرض بالمقاريض لما يذهب به أهل البلاء من الفضل.
وهذه الآية عامة مطلقة محكمة ولا تزال كذلك إلى آخر الزمان، وما جاء من الآثار بأنها نزلت في سيدنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين عزموا على الهجرة لأرض الحبشة لا يقيدها ولا يخصصها لما تقدم آنفا في الآية 8 و10، وعلى هذا فإنه يجب على كل من لم يتمكن من القيام بأمر دينه كما ينبغي في بلدة ما أن ينتقل إلى غيرها لإقامة شعائر دين اللّه كما هو مفروض عليه ولا عذر له بالتفريط لأن اللّه تعالى لم يضيق عليه ولم يقسر خلقه على الإقامة في بلد واحد بل وسع عليهم بالنقلة وجعلهم بالخيار، فأي قرية أراد الإقامة فيها لأمر دينه ودنياه أيضا فله ذلك وجاء في الخبر عن سيد البشر أن من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وجبت له الجنة.
فعلى العاقل البصير المتفكر أن لا يصغي لوساوس الشيطان من تخويفه بضيق العيش قال تعالى: {وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} الآية 100 من سورة النساء في ج 3، ولهذا البحث صلة واسعة في تفسيرها وفي الآية 55 من سورة العنكبوت الآتية إن شاء اللّه القائل {قُلْ} يا سيد الرسل {إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ 11} وحده لا لغيره ولا تكرار في هذه الآية لأن الأولى خطاب من اللّه إلى رسوله، وهذه أمر من اللّه إليه بأن يفهم قومه غاية عبادته وأن يقول لهم أمرت بالإخلاص لعبادته فأخلصوا أنتم العبادة إليه {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ 12} من هذه الأمة كما كان جدي إبراهيم عليه السلام راجع الآية 163 من سورة الأنعام المارة والآية الأخيرة من سورة الحج في ج 3، فاتبعوني وأسلموا للّه تفوزوا بخيري الدنيا والآخرة، {قُلْ} يا سيد الرسل {إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} في هذه الدنيا بعدم تبليغكم ما أمرني به {عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ 13} وهو يوم القيامة الذي لا أعظم منه هولا.
وقدمنا في الآية 15 من سورة الأنعام نظير هذه الآية وانها نزلت حين قال كفار قريش لحضرة الرسول ما حملك على ما أتيتنا به ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وقومك فتأخذ بها ليجتمع عليك فخذك وعشيرتك ومن والاهم فأنزل اللّه هذه الآية وفيها مزدجر عظيم لمن ألقى السمع لمعناها وكان له قلب يعي مغزاها لأنه صلّى اللّه عليه وسلم مع جلالة قدره وشرف طهارته ونزاهته وعلو مقامه ومنصبه خائف حذر من هول ذلك اليوم ووجل مما يكون فيه فكيف بنا يا ويلنا إن لم يرحمنا اللّه، ثم أكد عليه ربه بقوله {قُلِ} لقومك الذين يريدونك على دينهم الباطل لا أتبع أهواءكم وإنما أعبد {اللّه مُخْلِصًا لَهُ دِينِي 14} لا أرغب في عبادة شيء غيره وإن ما يعبده آبائي وقومي باطل وإنكم على ضلال باتباعهم، أخبر اللّه سبحانه في هذه الآية أنه صلّى اللّه عليه وسلم يخص اللّه وحده بعبادته ويخلص لجلاله دينه، وفي الآية الأولى أي الثانية بالنسبة للآية التي بصدر هذه السورة أنه مأمور بالعبادة والإخلاص للّه تعالى فلا تكرار أيضا لأن الكلام أولا واقع في نفس الفعل وإتيانه، وثانيا فيما يفعل الفعل لأجله، ولهذا رتب عليه قوله جل قوله {فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} ففيه الخسار العظيم والوبال الشديد عليكم، وهذه الجملة فيها تهديد ووعيد وليست من باب الأمر بل من باب التبليغ والزجر يدل عليه قوله عز قوله {قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ} فهولاء الكاملون في الخسران الجامعون لوجوهه وأسبابه باختيارهم الكفر ورضاهم به وقد وصف اللّه تعالى خسرانهم بغاية الفظاعة بقوله سبحانه تنبيها لاجتنابه {أَلا ذلِكَ} الخسران المزدوج {هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ 15} لأن أهله استبدلوا الجنة بالنار والدرجات بالدركات في الآخرة كما استبدلوا الطاعة بالعصيان والتصديق بالجحود في الدنيا ثم بين نوعا من هذا الخسران فقال {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ} أطباق وأعطية {مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} فراش ومهاد، وهذا من باب اطلاق اسم الضدين على الآخر لأن الظلل لا تكون من تحت بحال من الأحوال لمعلوميتها كما تقول خرق الثوب المسمار برفع الثوب ونصب المسمار لمعلوميته أيضا إذ لا يكون الثوب خارقا للمسمار بحال ما البتة.